وضع داكن
14-12-2025
Logo
الخطبة : 1082 - الإسراء والمعراج ، الصلاة - جوانب البر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى : 

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وآل بيته الطيبين الطاهرين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين.

فرض الصلاة في حادثة الإسراء والمعراج: 


أيُّها الإخوة الكرام: لازلنا في مناسبة الإسراء والمعراج، وقد فُرضت الصلاة في هذه المناسبة، والنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مقام في سدرة المُنتهى، بوحيٍ مباشرٍ من الله، لذلك الله عزَّ وجل يقول في أول سورةٍ بعد الفاتحة في البقرة:

﴿ الم (1)  ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)﴾

[ سورة البقرة  ]

من هُم؟ 

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)﴾

[ سورة البقرة  ]


الإيمان تصديق وإقبال والكفر تكذيب وإعراض: 


الدنيا محسوسة، تراها على الشبكية، البيت الجميل، المرأة الجميلة، المركبة الفارهة، الطعام اللذيذ، والآخرة خبرٌ في القرآن الكريم، فبطولة الإنسان أن يؤمن بهذا الخبر، وأن يُصدِّقه، وأن يجعله محوراً لحركته في الحياة. 
 (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ) صَدَّق الله أن هناك يوماً آخر، صَدَّق الله أن هناك جنَّةً يدوم نعيمها، وأن هناك ناراً لا ينفذ عذابها، صَدَّق الله عزَّ وجل: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) .
هذه آيةٌ جامعةٌ مانعة، هناك جانبٌ عقدي، تُصدِّق بوجود الإله ووحدانيته وكماله، وأسمائه الحُسنى وصفاته الفُضلى، وبأنَّ هناك يوماً آخر تُسوّى فيه الحسابات، عندئذٍ تُقبِل عليه، تُصدِّق فتُقبِل هذا هو الإيمان، تصديقٌ وإقبال، والكُفر تكذيبٌ وإعراض، لا بُدَّ من عملٍ صالح.

﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾

[ سورة فاطر  ]

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف  ]


دين الله عزَّ وجل اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوق: 


آيةٌ جامعةٌ مانعة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) يا محمد قُل لعبادي الذين آمنوا بي، آمنوا بألوهيَّتي، وبربوبيتي، وبوحدانيتي، وبكمالي المُطلَق، آمنوا بعلمي، برحمتي، بحكمتي، بعدلي.

﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

آيةٌ ثالثة على لسان السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:

﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾

[ سورة مريم  ]

بالاتصال بالله بعد معرفته، وطاعته، والتقرُّب إليه، والزكاة الإحسان إلى الخلق، فكأن هذا النبي العظيم لخّص دين الله بكلمتين: اتصالٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق.

ارتباط الفلاح بالإيمان والأعمال الصالحة: 


وفي القرآن الكريم أيُّها الإخوة بضع آياتٍ:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

نجح، تفوَّق، كان عاقلاً، كان ذكياً، حقَّق المُراد من وجوده، حقَّق الهدف من خلقه (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) خلقك كي تؤمن، وكي تتصل، ولجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد حرف تحقيق، لن تُفلح إلا إذا آمنت، ولن تُفلح إلا إذا صلّيت، ولن تُفلح إلا إذا عملت الصالحات، قد تملِك مليارات، قد ترتقي أعلى منصبٍ في الأرض، قد تُجمِّع أكبر ثروةٍ، قد تنغمس إلى قمة رأسك بالملذات، وعند الله لست بفالح، خاسر:

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾

[ سورة العصر  ]

لأنَّ مُضي الزمن يستهلكه.

عطاء الله عطاء أبدي لا ينتهي:


لو معك مليار مليار، عند الموت كل شيءٍ حصَّلته في عُمرٍ مديد، وبجهدٍ جهيد، تخسره في ثانيةٍ واحدة، هذه الثروة الضخمة، والمكانة، والهيمنة، والمُتَع، والملذات، والبيوت، والمركبات، والطائرات منوطة بدقات القلب، فإذا توقف القلب انتهى كل شيء، لذلك لا يليق بعطاء الله أن ينتهي بالموت، هذا ليس عطاء الله عزَّ وجل، عطاء الله عطاءٌ أبدي.

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر  ]


صفات المؤمن الصادق عديدة منها: 


1 ـ إعراضه عن اللغو:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

قال بعض العلماء اللغو ما سوى الله. 

2 ـ عفَّته عند إثارة شهوته:

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

عفيفٌ حينما تُستثار شهوته.

﴿ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

ليس في الإسلام حرمان، ما من شهوةٍ أودعها الله في الإنسان، إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها.

﴿ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾

[ سورة المؤمنون  ]


من صلّى لا يعلم ماذا قرأ كالسكران في حُب الدنيا: 


كل أنواع الانحراف الجنسي والشذوذ والتطلُّع إلى غير الزوجة.

﴿ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

دققوا:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[ سورة النساء  ]

هذه الآية نُسِخت أليس كذلك؟ لكن فيها مغزى كبير (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) فالذي لا يشرب الخمر لكنه إذا صلّى لا يعلم ماذا قرأ، أليس في حُكم السكران في حب الدنيا؟ (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) .

لله معيتان معيةٌ عامة ومعيةٌ خاصة: 


هناك أيُّها الإخوة لله معيتان، معيةٌ عامة:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾  

[ سورة الحديد  ]

مع الكافر، مع المُلحِد، مع المجرم، مع المؤمن، مع الطاهر، مع النبي، مع الولي معية علمٍ، وهو معكم بعلمه، لكن هناك معيةً خاصة، معكم يُدافع عنكم، معكم يوفقكم، معكم يؤيدكم، معكم ينصركم، معكم يحفظكم، معكم تُلهمون الصواب، معكم يلقي في قلوبكم النور، معكم يلقي الرضا، يُلقي الحُب، هذه المعية الخاصة لها ثمن.

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[ سورة المائدة  ]

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114)﴾

[ سورة هود  ]

(( الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ ))

[ صحيح مسلم ]


 كل العبادات التي سنّها الله تعالى من أجل الاتصال به: 


أيُّها الإخوة: مع القرآن الكريم، سيدنا إبراهيم يقول: 

﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

ما أهم شيءٍ في الحج؟ (لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) دقق: الصلاة من أجل الاتصال بالله، والصيام من أجل الاتصال بالله، والحج من أجل الاتصال بالله، والزكاة من أجل الاتصال بالله، إذاً كل العبادات من أجل الاتصال بالله (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) .

 الصلاة الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال إلا عند السُبات والإغماء: 


لذلك الصلاة الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقُط بحال، إلا عند السبات والإغماء فقط، لك أن تُصلّي قاعداً، ولك أن تُصلّي مُضطجعاً، ولك أن تُصلّي مُستلقياً، ولك أن تُصلّي بإيماءاتٍ برأسك، ولك أن تُصلّي بحركاتٍ من جفنيك، لا بُدَّ من أن تُصلّي، تُقصَر الصلاة في السفر عدداً، وتُقصَر الصلاة في أحوالٍ خاصة نوعاً، لا بُدَّ من أن تُصلّي.
الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقُط بحال هو الصلاة، أمّا الحج يسقُط عن الفقير وغير المُستطيع، والصيام يسقُط عن المسافر والمريض، والزكاة تسقُط عن الفقير، والشهادة تُلقى مرةً واحدة، الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقُط بحال هو الصلاة، لذلك: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) .
ومن التوحيد والأدب مع الله، أنك إذا صلّيت وخشعت في الصلاة، وانهمرت دموعك، فهذا من فضل الله عليك، سيدنا إبراهيم يقول:

﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

لذلك قال تعالى:

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)﴾

[ سورة الإسراء  ]

قال بعضهم: قرآن الفجر في صلاة الفجر، لذلك:

(( مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّه، فَلا يَطْلُبنَّكُم اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدرِكْه، ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّم ))

[ صحيح مسلم ]

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)﴾

[ سورة الإسراء  ]


المسلمون اليوم في عصور من التخلف الإيماني: 


مشكلة المسلمين في عصور التخلف الإيماني، نحن في عصر تقدُّمٍ علمي، تقدُّمٍ تقني، تقدُّمٍ في المُكتشفات، تقدُّمٍ في الأجهزة، في الآلات، تقدُّم المحمول، الكومبيوتر، الفضائيات، هذا تقدُّم ولكننا في عصر تخلف شديد في الدين، جاءت هذه الآية فغطَّت ذلك:

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم  ]

وقد لقينا ذلك الغي، أجمع العلماء على أنَّ إضاعة الصلاة لا يعني تركها، بل يعني تفريغها من مضمونها.

طاعة الله و شكره واجبة على كل إنسان:


أيُّها الإخوة: في المناجاة لسيدنا موسى:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

الصلاة من أجل ذكر الله، لذلك:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾

[ سورة آل عمران  ]

قال العلماء: أن تذكره فلا تنساه، وأن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره.

على كل مسلم أن يحتل أعلى المناصب وفق منهج الله ليقوي دينه و ينشره: 


لذلك:

﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

[ سورة النور ]

كلمة رجال في القرآن لا تعني أنهم ذكور، الآن هناك ذكور بالملايين، بالملايين المُملينة ذكور وليسوا رجالاً (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) يُتاجرون، ينشؤون المشاريع، يُحصِّلون الشهادات العُليا، يحتلون أعلى المناصب وفق منهج الله، يجمعون ثروات لإنفاقها في سبيل الله (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) لا يوجد مسلم مُتقوقع، مسلم بالتعتيم، لا يوجد بيده شيء، يده هي السفلى، يتضعضع أمام الغني، يتضعضع أمام القوي، يشكو حاله دائماً، ما بيدنا شيء، انتهينا، هذا المسلم؟! بهؤلاء فتحت الأرض؟! بهذا الضعف؟! بهذه الاستكانة؟! بهذا الخمول؟! بهذا الكسل؟!
(رِجَالٌ) يصنعون، يقيمون مشاريع عملاقة ليكفوا شبابهم، ليُحصِّنوا شاباتهم، ليزوجوا شبابهم بشاباتهم، لينتجوا لا ليكونوا تبَعاً للأقوياء.

النهي عن الفحشاء و المنكر أحد أكبر أهداف الصلاة: 


بصراحةٍ عندنا الآن مقاييس للتقدُّم، طبعاً مادية، هل اسمك في رأس قائمة المستوردين؟ متخلف، أم اسمك في رأس قائمة المُصدَّرين؟ هل يتحكم بك الآخرون؟ يتحكمون بقمحك؟ بغذائك؟ بما تملِك؟ هل تأكل طعاماً لا تزرعه، كله استيراد؟ هل تلبس ثياباً لا تنسجها؟ هل تستخدم آلةً لا تصنعها؟ معنى ذلك أننا تحت رحمتهم، يمنعون عنك قطع التبديل فتتوقف أجهزتك كلها، الآن هناك حرب قطع تبديل، حرب نفط، حرب مياه، حرب قمح (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) .

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت ]

أحد أكبر أهدافها: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) .

من لم يستقم على أمر الله لا قيمة لصلاته ولا لذكره ولا لعبادته ولا لحجه:


والله الذي لا إله إلا هو، من صلّى الصلوات الخمس بفرائضها وسُنَنها، وصلاة النافلة كقيام الليل، ولم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر، والله الذي لا إله إلا هو، أستعير قول السيدة عائشة رضي الله عنها حينما قالت لأحد الصحابة: 

(( أنها دخلتْ على عائشةَ رضيَ اللهُ عنها فدخلتْ معها أمُّ ولدِ زيدِ بنِ أرقمَ فقالتْ يا أمَّ الْمُؤْمِنينَ إني بِعتُ غلامًا من زيدِ بنِ أرقمٍ بثمانمئةِ درهمٍ نسيئةً وإني ابتعتُه منه بستمئةٍ نقدًا فقالت لها عائشةُ بئسما اشتريتِ وبئسما شَريتِ أخبِري زيدًا أنَّ جهادَه مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قد بطَلَ إلى أن يموتَ ))

[ ابن القيم تهذيب السنن ]

والله حينما تغش مسلماً، حينما تبني مجدك على أنقاض المسلمين، حينما تبني غناك على إفقارهم، الاحتكار، الغش، حينما تفعل هذه الأفعال والله لا تذوق رائحة الصلاة، وصلاتك لا وزن لها، ولا شأن لها، ولا تُقدِّم ولا تُؤخِّر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) .
تضع مادةً مُسرطنة ممنوعة دولياً حتى يزداد الإنتاج الزراعي، وتربح أرباحاً مضاعفة، وتُصلّي؟! هذه الصلاة لا قيمة لها إطلاقاً، تنصح مريضاً بعملٍ جراحي وهو لا يحتاجه؟! تؤكِّد للموكِّل أنَّ الدعوى رابحة وهي لن تربح؟! ترفع مستوى الأسئلة حتى تجعل الأُسَر في مآتم من أجل أن تُؤمِّن دروساً خاصة للمدرسين؟ هذا هو المؤمن؟!! كل حرفة فيها ملايين أنواع الغش والاحتيال، أنت حينما لا تستقيم على أمر الله لا قيمة لصلاتك، ولا لذكرك، ولا لعبادتك، ولا لحجِّك.

((  إذا خرج الحاجُّ حاجًّا بنفقةٍ طيبةٍ، ووضع رجلَيهِ في الغرزِ، فنادى: لبيك اللهم لبيكَ، ناداه منادٍ من السماءِ: لبيك وسعديكَ، زادُك وراحلتُك حلالٌ، وحجُّكَ مبرورٌ غيرُ مأزورٌ، وإذا خرج بالنفقةِ الخبيثةِ فوضع رجلَه في الغرزِ فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماءِ: لا لبيك ولا سعديكَ، زادُك حرامٌ، ونفقتُك حرامٌ، وحجُّك غيرُ مبرورٍ ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ]

(( من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ بأن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ ))

[ صحيح البخاري ]

الغش قول زور، البضاعة من الصين ومكتوبٌ عليها صنع في ألمانيا، يُصلّي أول صف، هذا قول زور، تقاضيت سعر البضاعة الألمانية، وقدَّمت له بضاعة صينية، وأنت تُصلّي؟!

تخلي الله تعالى عن المؤمنين لأنهم فصلوا بين الدين و بين الحركة و الحياة والسلوك:


إخوانا الكرام: الله عزَّ وجل يبدو أنه تخلى عنّا، لا لأسبابٍ بسيطة، المسلمون فصلوا بين الدين، وبين الحركة والحياة والسلوك، معقول عملٌ فني كل ما فيه خيانة زوجية، على حمل سِفاح، على اختلاط، على فجور، الناس جميعاً أثناء عرض الفيلم منع تجوُّل، هؤلاء المسلمون؟! هؤلاء الذين يرجون الله عزَّ وجل واليوم الآخر؟! مئات الأُسَر تمَّ فيها الطلاق من هذا الفيلم، هؤلاء هُم المسلمون الذين يُعلَّق عليهم الآمال؟

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾

[ سورة الكهف ]

لهم صغارٌ عند الله، هؤلاء الذين تعلقوا بالفاحشة، والزِنا، وحمل السِفاح، والاختلاط، وبأسلوبٍ إسلامي في بلدٍ إسلامي؟ هذا هو الدين؟! (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) .
معقول إذا حضر أحد هؤلاء الممثلين، مئات الألوف اجتمعوا لرؤيته فقط، ليكحلوا أعينهم برؤيته وهو زانٍ؟ نحن أين أصبحنا؟! في الحضيض، هذه الحقيقة المُرَّة، لا تقُل أُمة إسلامية، إطارٌ إسلاميٌ باهتٌ لا قيمة له إطلاقاً.

من ذَكَر الله منحه الأمن والطمأنينة والسعادة والتوفيق:


(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) أكبر ما فيها، بل إنَّ ذِكر الله لك وأنت في الصلاة، أكبر من ذِكرك له، إن ذَكَرك منحك الأمن، منحك الرضا، منحك الحكمة، منحك السعادة، منحك التوفيق.

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)﴾

[ سورة طه ]


أوامر الله عزَّ وجل موجهة إلى المؤمنين والمؤمنات معاً: 


أيُّها الإخوة: كل أمرٍ إلهي موجَّهٍ إلى الذين آمنوا، موجهٌ قطعاً إلى المؤمنات ولكن الله سبحانه وتعالى لكرامة المرأة عنده، أراد أن يخصّها بأمرٍ خاصٍ بها:

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾

[ سورة الأحزاب ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾

[ سورة الجمعة ]

إخوانا الكرام: إن دخلت إلى المسجد فاسأله رحمته، إذا صلّيت أن يتجلى عليك بالرحمة، إن دخلت إلى المسجد فاسأله رحمته، وإن خرجت من المسجد فاسأله من فضله، أن يرزقك عملاً صالحاً تلقى الله به.

من بنى مجده على أنقاض الآخرين لا قيمة لصلاته إطلاقاً:


لذلك المسجد فيه مهمتان: تتلقى التعليمات في خُطبة الجمعة ودروس العِلم، وتقبض الثمن رحمةً من الله عند اتصالك فقط، أمّا أين دينك؟ في محلك التجاري، أين دينك؟ في عيادتك، أين دينك؟ في مكتب المُحاماة، في قاعة التدريس، دينك بالحقل، بالمعمل، لا تغشّ المسلمين، والله الذي لا إله إلا هو، مئات ألوف أساليب الغش التي تُبتَز فيها أموال المسلمين، معمل أغذية يشتري المواد التي انتهى مفعولها، تُباع بستين بالمئة من قيمتها، هذه لا تُكشَف، وهو يُصلّي! والله هناك أساليبٌ لكسب الأموال على حساب صحة المسلمين، على حساب أمنهم، هذا الذي يبني ماله على إفقار الناس، على ابتزاز أموال الناس، على إخافة الناس، على غشّ الناس، أين صلاته؟! لا صلاة له، لا نقول له لا تُصلّي، الصلاة فرضٌ لا أحد يجرؤ أن يقول له لا تُصلّي، صلِّ لكن لا قيمة لهذه الصلاة:

(( أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ  ))

[ صحيح مسلم ]

(( لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا، قال ثوبانُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا جَلِّهم لنا أن لا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ قال أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها ))

[ أخرجه ابن ماجه ]


المُصلّي مُحصَّن لأن ثقته بالله كبيرة:


إخوانا الكرام: هناك نقطةٌ دقيقة جداً، أتمنى أن أُنهي بها الخُطبة، النقطة:

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)﴾

[ سورة المعارج ]

شديد الهلع.

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)﴾

[ سورة المعارج ]

هذه نقاط ضعفٍ في أصل خلق الإنسان، يعني فيوز - وصلة ضعيفة - إذا جاء التيار بدل أن يُحرق هذا الحاسوب الغالي جداً، تسيح هذه الوصلة وينقطع التيار ويسلم الجهاز.
(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) لو لم تكن هلوعاً لا تتوب إلى الله (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) .

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[ سورة المعارج ]

المُصلّي مُحصَّن لأنَّ ثقته بالله كبيرة.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: من هُم الفالحون؟ 


الآن دقق: شيءٌ ذكرته كثيراً لكن الآن مناسبته، إذا قلت إنسان، هذه تُغطي ستة آلاف مليون، أضِف لإنسان كلمة، إنسانٌ مسلمٌ تغطي مليار ونصف، ضاقت الدائرة، أمّا إذا قلت: إنسان مسلم عربي، خمسمئة مليون، إنسان مسلم عربي مثقف مئتي مليون، ثلاثمئة مليون، إنسان مسلم مثقف عربي طبيب خمسمئة ألف، إنسان مسلم مثقف عربي طبيب قلب مئة ألف، إنسان مسلم عربي مثقف طبيب قلب جرَّاح ألف، مقيم في دمشق خمسة، كلما أضفت صفةً ضاقت الدائرة، احفظ هذا المَثَل.

1 ـ الفالح هو الخاشع في صلاته:

 (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) كلنا نُصلّي لكن من هُم الفالحون؟ الذين هُم في صلاتهم خاشعون، ضاقت الدائرة.

2 ـ المُعرِّض عن اللغو:

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) هذه صفةٌ ثانية، ضاقت الدائرة.

3 ـ المُزكّي عن أمواله:

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) ضاقت الدائرة أكثر.

4 ـ الحافظ لفرجه:

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) ضاقت وضاقت.

5 ـ العفيف والطاهر:

وهنا ضاقت كثيراً: (إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ)

6 ـ الحافظ للأمانة والعهد:

التدريس أمانة، المُحاماة أمانة، الطب أمانة، الهندسة أمانة (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) ضاقت. 

7 ـ المحافظ على الصلاة:

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ضاقت وضاقت (أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) .

(( عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس أكلؤه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلماً، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة  ))

[ رواه البزار ووثقه أحمد ]


الصلاة عماد الدين: 


أيُّها الإخوة: لذلك الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فكأنما هدم الدين، أي الصلاة فُرضت في الإسراء والمعراج، وبوحيٍ من الله مباشر، لذلك آثرت أن تكون هذه الخُطبة عن الصلاة، إن شاء الله في الخُطبة القادمة نتابع الصلاة في القرآن الكريم، وفي خُطبةٍ ثالثة إن شاء الله نتابعها في أحاديث رسول الله.
الصلاة عماد الدين، هذه الصلاة إن صحَّت صحَّ كل شيء.

(( أولُ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه ))

[ أخرجه الطبراني ]

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخــطــبـة الثانية : 

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد انَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدين في آخر الزمان أصبح انتماءً شكلياً و عباداتٍ جوفاء: 


أيُّها الإخوة: كأنَّ الله بعلمه المُطلَق، عَلِم أنه بعد مرور العقود والقرون على هذا الدين، يبقى شكلاً بلا مضمون، يبقى انتماءً شكلياً، يبقى عباداتٍ جوفاء لا تُقدِّم و لا تُؤخِّر، ولا تُغيِّر في حياتنا شيئاً، لذلك هذه الآية يقول الله عزَّ وجل:

﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾

[ سورة البقرة ]

الله هو البَر، برُّ رحيم، البِر الأعمال التي ترقى بها عند الله، الأعمال التي تستحق بها أن يبَرَّك الله، كلام دقيق، الله من أسمائه الحُسنى بَرّ:

﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾

[ سورة الطور ]

والبِرّ الأعمال التي تتقرب بها إلى الله، إن صحَّت كان البِرُّ عطاء الله المُطلَق، توفيق، سعادة، رضا، حكمة.

البر من آمن بالله إيماناً يحمله على طاعته: 


فالله عزَّ وجل يُنبِّه المؤمنين، ولاسيما إذا طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فأصبحت قلوبهم كالحجارة (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) .
مرة كنت في الطائرة، سألتني إنسانة غير مُحجبة إطلاقاً، بأنَّ عندهم شعرةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذها أقرباؤها، هل تُقيم عليهم دعوى؟ قبل أن تبحثي عن شعرة رسول الله تحجَّبي!
(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) إيماناً يحمله على طاعته، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيماناً يمنعه أن يؤذي نملةً.

(( دَخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها، فلا هي أَطْعَمَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تأكلُ من خَشَاشِ الأرضِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

فما قولكم بما فوق الهِرَّة؟ أُممٌ تُقتَّل، مليون قتيل في العراق، مليون مُعاق، خمسة ملايين مُشرَّد.

محبة الإنسان لله تعالى تُترجم إلى إنفاق المال في سبيله: 


(وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) غير الزكاة (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) هو يُحب المال وقد أنفقه، أو لأنه يُحب الله عزَّ وجل، محبته لله تُرجِمت إلى إنفاق المال (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) الزكاة شيء (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) شيءٌ آخر.
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .

 جوانب البر: 


بالبر هناك جانبٌ عَقَدي : (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) .
هناك جانبٌ عبادي : (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) .
هناك جانبٌ خيري : (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ) .
هناك جانبٌ أخلاقي : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) .
البِرّ الذي تستحق به رضوان الله، فيه جانب عَقَدي، جانب عبادي، جانب خيري، جانب أخلاقي، قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

الدعاء: 


اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولّنا فيمَن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحقِّ ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضَ عنّا.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

الملف مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور